خطاب رئيس الـجمهورية في افتتاح الندوة الوطنية للمحامين
23 مارس 2006
بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين،
السيد رئيس الاتحاد الوطني للمحامين،
السيدات والسادة الضيوف الكرام،
السيدات و السادة الحضور،
من دواعي الغبطة أن أكون بينكم اليوم، استجابة لدعوتكم الكريمة لحضور الندوة الوطنية للمحامين التي شرفتموني بافتتاحها، والتي أعتبرها محطة هامة لممارسي المهنة حيث يطرحون انشغالا تهم ويسعون إلى تحقيق تطلعاتهم في إطار القانون الذي نظم مهنة المحاماة.
وما من شك في أن هذه الندوة ستمكنكم من تدارس المسائل المهنية والقانونية والتنظيمية التي من شأنها ترقية هذه المهنة، ودعم حقوق الدفاع لما لهذه المسائل من ارتباط وثيق بمفاهيم الحق والحرية، وبالمساواة والعدل، وما تسترعيه من اهتمامات، وما تقتضيه من أمانات لكونها متصلة مباشرة بالوجود الإنسان،ي ومرتبطة ارتباطا وثيقا بما له من نفس ونفيس.
وإذا كان من المفروض أن يكون هذا الدور دورا يتقاسمه كل مواطن يشعر بمسؤوليته، فإن المحامي بحكم موقعه أجدر بأن يكون في الطليعة من أجل تثبيت مبادئ الحق والعدل وصيانتها وحمايتها، فهو المدافع والمنافح عن الحقوق والحريات الشرعية والقانونية.
أيتها السيدات أيها السادة،
تنعقد هذه الندوة متزامنة مع ذكرى من ذكريات الجزائر المكافحة، وهي ذكرى استشهاد المناضل الأستاذ علي بومنجل رحمه الله في 23 مارس 1957، وإن ذلكم لعمرى تعبير عميق من اتحاد المحامين عن الوفاء بالعهد لرجال ونساء أخلصوا لوطنهم الغالي، فقدموا له أغلى ما ادخروا وأقدس ما ملكوا .
إن الأستاذ على بومنجل كان واحدا من الكثيرين الذين قدمتهم أسرة المحامين قربانا على مذبح الحرية والشرف. وهو مثال للجزائري الحر الذي رفض أن يعيش شعبه في ظل المذلة والهوان، وتحت القهر والاحتلال، فلم يتوان في ترك حياة الدعة، وبحبوحة العيش الرغيد التي هيأتها له مكانته الاجتماعية آنذاك، وأبى له الشموخ والشهامة والإباء أن يداهن أو يهادن المحتلين، واندفع إلى الصفوف الأولى مناضلا في ساحة الكفاح الشريف.
ومثل هذه التضحية ليست غريبة عن أعضاء أسرة الدفاع التي كانت دائما في طليعة نضال المجتمعات من أجل تجسيد مثل الحرية والعدالة والسلم، وهو ما يفسر وقوف العديد من المحامين الأجانب الشرفاء الذين لم يعرفوا إلا العدل سبيلا للإنسان السوي والضمير الحي إلى جانب القضية الجزائرية، إبان الثورة التحريرية بكل شجاعة والتزام، حتى دفع بعضهم حياته ثمنا لهذه المواقف الإنسانية النبيلة ومنهم من لا يزال حيا يرزق حتى اليوم.
وأرى بعضهم معنا في هذه القاعة وعلى رؤوسهم، من نور الحق تيجان زينتها، جواهر القسطاس والنزاهة، فإليهم مني كل الإكبار والتقدير وأهنئهم على إخلاصهم لمبادئهم وثبات مواقفهم في نصرة الحق والعدل، اللذين بهما ينسجم الإنسان مع ما في إنسانيته من نبل وشرف وكرامة.
وتحية إكبار لكل المحامين الذين رافعوا عن ضحايا الظلم والتعسف أثناء ثورة التحرير، ودفعوا غاليا ثمن جرأتهم وشجاعتهم.
وتحية لكل المحامين الذين عملوا إلى جانب أداء واجبهم المهني عمل المناضلين أكثر من عمل المحامين.
والتجلة والتبجيل للجزائريين وغير الجزائريين الذين راحوا ضحية تفانيهم في العمل وثباتهم في نصرة الحق والعدل.
إن رسالة المحامي رسالة عظيمة وعريقة في المجتمعات الإنسانية منذ أن نشبت الخلافات والخصومات بين البشر، فقد حفلت الأديان السماوية والشرائع الإنسانية، وحكمة العقلاء في كل أمة منذ قوانين حمورابي، وفلسفة اليونان وفقه الرومان بالدعوة إلى الدفاع عن الحق بكل الوسائل ومحاربة الباطل والظلم بشتى الأسلحة.
ثم جاءت الشريعة الإسلامية السمحة الغراء، فأولت للحق ونصرته حيزا كبيرا من الاهتمام بعنوان"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، فقال جل من قائل" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، وتوالت بعد ذلك نصوص السنة المطهرة والفقه الإسلامي لشرح وتفسير هذا الأصل من أصول الشريعة.
لذلكم، فإن المحاماة وإن كانت مهنة حرة ومستقل، إلا أنها تظل جزءا لا يتجزأ من الأسرة القضائية، ومن هنا كان المحامون أجدر الناس بالدفاع عن الحقوق الأساسية للمواطن، ونصرته في استرجاع حقوقه المهضومة من أي كان، ومهما كان، فلا أحد مهما كان عنوانه وسمته يعلو على الحق أو يستهين به، وبهذا فقط يساهم المحامون في إرساء دولة الحق والقانون التي لن ترفرف رايتها إلا ببسط رحمة الحق وطي جبروت الباطل، ورضوخ الجميع لسلطان القانون .
حقا إنها مهمة شاقة، ولكنها مهمة إنسانية ونبيلة، قديمة كالقضاء، ولازمة كالعدالة، وشريفة كالفضيلة، عامرة بمحاميد الأخلاق عبر العصور وفي كل المجتمعات. وورد في تشريع الإمبراطور الروماني المعروف جوستينيان "إن المحامين الذين يحلون معضلات القضايا بقوة حجتهم وبلاغة مرافعاتهم، وينتصرون للحقوق الضائعة ويذودون عن الحقوق المهددة بالضياع، لا يقل نفعهم في المجتمع عن نفع أولئك الذين يناضلون عن حياض بلادهم في ساحات الوغي ... "وقال الملك لويس الثاني عشر: " لو لم أكن ملكا لفرنسا لوددت أن أكون محاميا".
ولن يستطيع المحامي أداء رسالته النبيلة إلا إذا كان شجاعا حينما يقف إلى جانب موكله في خضم معركة الخصومة، يعلن رأيه غير هياب، سلاحه إيمانه بصدق دعوته وإخلاصه لمبادئه، مرتديا رداء النبل، متذرعا بالحجة الداحضة، والمنطق السليم، واللهجة المعتدلة، غير هماز ولا لماز ولا ثائر ولا فحاش، متجملا بالوقار والمهابة، متجلببا بالحكمة والرزانة، متحليا برحابة الصدر وسعة الأفق والبال.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
إن المهمة الملقاة على عاتقكم مهمة سامية لأنها تتعلق بتجسيد أحد أهم حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في الدفاع المكرس دستوريا الذي يعتبر معيارا حقيقيا للمحاكمة العادلة من خلال المساهمة في تحقيق العدل، والعمل على احترام مبدأ سيادة القانون، وضمان الدفاع عن حقوق المواطن وحرياته.
فالمحاماة أمانة ومسؤولية يجب وعيها في كل مكان وفي سائر الظروف والأحوال، باعتبار أن المحامي يساهم في خدمة العدالة من خلال نصرة الحق وتجسيد سيادة القانون.
ومن هذا المنطلق، فإن حسن سير العمل القضائي يتطلب بالضرورة تعزيز حقوق الدفاع وتوفير الشروط اللازمة لكي يمارس المحامون مهنتهم في أحسن الظروف.
ووعيا من الدولة الجزائرية بأهمية الدور المنوط بالمحامي، فقد تكفل برنامج إصلاح العدالة بكل ما من شأنه أن يعزز حقوق الدفاع التي يجب أن لا تنحصر في خصوصية الدفاع، بل يجب أن تتوسع إلى إعلام وتوجيه المتقاضين، وتوفير المساعدة القضائية لمن يستحقها.
إن الإصلاحات المنتهجة في قطاع العدالة تستدعي، استجابة لمتطلبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الجزائري، إصدار قانون جديد للمحاماة يأخذ بعين الاعتبار في المقام الأول المسائل التي لها أثر مباشر على ممارسة الحقوق والحريات الأساسية للمواطن، لاسيما المتعلقة منها بترقية حقوق الدفاع طبقا للمبادئ الدستورية والمواثيق والمعاهدات الدولية المصادق عليها في هذا المجال.
إن مشروع هذا القانون الذي هو قيد الإنجاز يجب أن يضبط هذه المهنة النبيلة بضوابط تستجيب للمعايير الدولية المتعارف عليها في مجال تحقيق أسس المحاكمة العادلة التي تشكل أساسا جوهريا ومرجعية نبيلة في جميع التعاملات الأساسية والدولية، وخصوصا أن بلادنا تنحو منحى الاندماج في الاقتصاد العالمي.
لذلكم، أضحت إعادة النظر في مهنة المحاماة وفق المتطلبات الجديدة للمجتمع لا سيما فيما تمليه ضوابط اقتصاد السوق ومقتضيات العولمة من تكفل أمثل بالمنازعات الدولية الناجمة عن سياسة الانفتاح، وتوفير دفاع يتحلى بكفاءة عالية، وتخصص نوعي واستقامة وإخلاص ومرجعيات واضحة لا غبار عليها.
وما دام المحامي هو الذي يجسد ممارسة الحق في الدفاع، فإن القانون الجديد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التكفل بانشغالات هيئة الدفاع وممارسي القانون والمتقاضين على السواء.
إن تحقيق عدالة ناجعة وذات مصداقية لا يمكن أن تتجسد حقا إلا إذا حرص جميع المتدخلين على تحسين أدائها من خلال مراجعة مستمرة لجميع أشكال التكوين.وأمام العدد المتزايد للملتحقين بالمهنة، بات من الضروري تعزيز هذا المبدأ الدستوري وهو الحق في الدفاع، وذلك بإنشاء مركز وطني لتكوين المحامين أسوة ببعض الدول المتقدمة التي سبقتنا في هذا المضمار، تنتقى له أفضل المترشحات والمترشحين، وتتوج فيه نهاية الدراسة بشهادة الكفاءة المهنية للمحاماة .
وحتى تمثل مهنة المحاماة أفضل تمثيل، يجب أن تنبثق هيآتها عن انتخابات ذات مصداقية كما يجب تفعيل دور مجلس الاتحاد تفعيلا يضمن تنسيقا وافيا بين مختلف منظمات المحامين من شأنه تقريب الرؤى، وتوحيد الممارسات، ومعاجلة النقائص الملحوظة في الميدان، والارتقاء بأخلاقيات المهنة وصيانتها وحمايتها من كل زيغ أو انحراف.
أيتها السيدات، أيها السادة،
إذا كانت المجهودات المبذولة لحد الآن في إطار إصلاح قطاع العدالة الذي جعلناه أولوية وطنية في برنامج عملنا قد قطعت أشواطا معتبرة في طريقها للوصول إلى تحقيق منظومة قضائية عصرية تستجيب للمعايير الحديث، فقد كان من أهم محاور هذا الإصلاح مراجعة وإعداد جملة من النصوص القانونية استلزمتها التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع الجزائري في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما استلزمها التطابق مع أحكام الدستور ومبادئ حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية التي صادقت أو انضمت إليها بلادنا من جهة، والتصدي إلى الآفات الاجتماعية البغيضة والجرائم الخطيرة التي تهدد أمن المجتمع وسلامة الأفراد وثروات البلاد من جهة أخرى.
إن التعديلات والإثراءات التي عرفها التشريع الجزائري في السنوات الأخيرة، جديرة بالتنويه وخاصة فيما يتعلق بتعزيز الضمانات المرتبطة بالحقوق والحريات الأساسية للمواطن، المفضية إلى حماية حقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوق الدفاع بصفة خاصة، وذلك بإفراد جملة من الأحكام القانونية التي تخول للمحامي حقوقا واسعة أثناء قيامه بمهامه في الدفاع وتمثيل المتقاضين لعل أهمها تعزيز حماية قرينة البراءة لتدعيم الضمانات الممنوحة للمشتبه فيه عند التوقيف للنظر، وتمكينه من الاستعانة بمحاميه عند المثول أمام وكيل الجمهورية، وإصلاح التحقيق القضائي بإدخال عناصر للتوازن بين مختلف أطراف الدعوة، وذلك لإلزام قاضي التحقيق بالبحث في أدلة الاتهام وأدلة النفي، ومراجعة ظروف الحبس المؤقت، والحد منه وإقرار الحق في التعويض عن الخطأ القضائي والحبس المؤقت غير المبرر، ومراجعة أحكام المساعدة القضائية.
وقد واكبت التطور الحاصل في الجانب التشريعي منجزات هامة في مجالات توفير وترقية الموارد البشرية والتكوين، وعصرنة القطاع ومده بالوسائل والتكنولوجيا الحديثة للقيام بمهامه على أحسن وجه. الأمر الذي يطمئننا على مسار إصلاح العدالة باعتبار المرحلة المنجزة هامة للغاية. لكننا نجزم بأن هذا القطاع الحساس ما يزال بحاجة إلى المزيد من جهود نسائه ورجاله المخلصين. ويحدونا أمل عريض ورغبة راسخة في أن يبسط سلطان العدل نفوذه الواسع على حياة الجزائريات والجزائريين، وطرد فلول الباطل إلى غير رجعة.
أيتها السيدات، أيها السادة،
يعرف الاقتصاد الجزائري تطورا بالغ الأهمية ضمن التحولات الكبرى التي يشهدها المجتمع، وذلك بالمرور من مرحلة الاقتصاد المسير إداريا والمخطط مركزيا، إلى اقتصاد حر قائم على مبدأ حرية المبادرة والمنافسة المشروعة. لذلكم كان لزاما علينا تكييف منظومتنا التشريعية مع متطلبات اقتصاد السوق من أجل تشجيع القطاع الخاص، وجلب الاستثمار الأجنبي لإنعاش اقتصادنا، والتقليص من تبعيته للمحروقات الزائلة، ومن ثم العمل على خلق ثروة وطنية متعددة الموارد لنضمن بحق رقي وازدهار مجتمعنا.
وإن اندماج الجزائر في الاقتصاد العالمي من خلال إبرامها لعقد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واستعدادها للانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة سينحو بالضرورة نحو إنهاء حالة الاحتكار وثقافة الاستئثار، وتحديدا زوال حق الاحتماء المطلق بالقانون الوطني، وتكريس مفهوم"العقد شريعة المتعاقدين" تعبيرا عن سلطان الإرادة دون قيد أو شرط، وتوجه المتعاقدين إلى تسوية نزاعاتهم أمام هيئات تحكيم خاصة مؤسساتية أو اتفاقية.
ففي ظل هذا التوجه، أدعوكم اليوم للعمل على تبني معايير ممارساتية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التطورات المتسارعة لمختلف مناحي الحياة داخليا وخارجيا، حتى تكون هيئتكم الموقرة مستعدة لمواجهة التحديات الجديدة التي تفرضها ظروف العصر، وذلك بالوقوف عند النقائص المعاينة، وإصلاح شروط تنظيم وتسيير وممارسة المهنة بما يستجيب للمعايير الدولية المتعارف عليها، وبما يمكن من ضمان الحفاظ على الأخلاقيات التي يجب أن تميزها دوما.
وباعتبار مهنة المحاماة إطارا أمثل لضمان ممارسة الحق في الدفاع لما للمحامي من دور هام في مساعدة وتمثيل المتقاضين أمام مختلف الجهات القضائية بما يكفل حق المتقاضي في الدفاع، وييسر أداء القضاة لمهامهم في إطار الشفافية والوضوح، كان لزاما أن يشمل مجهود الإصلاح كذلك ترقية نشاط جميع شركاء قطاع العدالة، وعلى الخصوص هيئة الدفاع تماشيا مع المتطلبات الراهنة من خلال تكوين نوعي وتخصص رفيع.
أيتها السيدات، أيها السادة،
إن الأزمة العميقة التي طالت بلادنا لما يزيد عن عشرية من الزمن، وتشابكت عند ظهورها عدة عوامل، انجرت عنها آثار وخيمة على النسيج الاجتماعي جعلته من الهشاشة والقابلية للاختراق لقمة سائغة للفكر المتطرف والمتعصب الغريب عن مقوماتنا الثقافية والدينية العريقة التي ما انفكت تشكل حصنا منيعا عبر حقب من التاريخ، تتحطم على أسواره كل محاولات التفرقة والتفتيت والتشرذم. وقد صنع ذلكم التطرف في مجتمعنا ما تعلمون حتى أضحى للتنافر والحقد والكراهية آلة جهنمية كادت تأتي على الأخضر واليابس، وأحدثت في المجتمع الجزائري تصدعات وشروخا خطيرة لولا لطف الله ورحمته بنا إذ هدانا ووفقنا إلى اتباع سبل السلام، واقتفاء منهج الحكمة والوئام، وهب الشعب الجزائري عن بكرة أبيه يؤيد ويدعم هذا المسعى في أكثر من مناسبة إيمانا منه بما حققته سياسة الوئام المدني من نتائج أثلجت الصدور، فتنفس الجميع الصعداء. إلا أن هذه الإجراءات ما كانت كافية لوطن لا يزال يستعيد عافيته ويضمد جراحه، تحدوه تطلعات مشروعة في إعادة بناء اقتصاده وتمهيد الطريق لانطلاقه نحو تحقيق رفاهيته وازدهاره، وضمان مستقبل أجياله والتمتع بعيشة راضية مطمئنة هادئة. فجاء ميثاق السلم والمصالحة في هذا السياق وزكاه الشعب الجزائري كما تعلمون في استفتاء التاسع والعشرين من سبتمبر 2005 بأغلبية ساحقة.
ثم صدر الأمر المتضمن تنفيذ هذا الميثاق الذي جاء تجسيدا للإدارة الشعبية بنصوصه التطبيقية ليشمل جميع حالات وآثار المأساة الوطنية بغرض علاجها معالجة منصفة، وتصفيتها تصفية كاملة ونهائية بغية اجتثاث أسباب ومظاهر هذه المأساة من جذورها، لتقوم مكانها وتترعرع أسباب أمن واستقرار البلاد، وانطلاق مسيرتها صوب البناء والتقدم والازدهار.
لقد جاءت نصوص هذا الميثاق لتعالج أوضاع الأشخاص الذين جنحوا للسلم وكفوا بمحض إرادتهم عن أعمال العنف، وسلموا أنفسهم للسلطات المختصة، وكذا الأشخاص المحكوم عليهم نهائيا والذين ما يزالون محل متابعات قضائية لارتكابهم أفعالا إرهابية أوتخريبية، كما جاء أيضا لمواساة أسر الضحايا والمفقودين بالتكفل بهم ماديا ومعنويا من باب واجب التآزر والتعاون والتضامن بين المواطنين.
وأخذ بعضهم بيد بعض في مواجهة النكبات والمآسي وتجاوز آثارها، ومن منطلق حس وطني وحضاري وخلق إنساني ترقى فيه المصلحة العليا للجماعة، وتعلو مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
إن كل ما نصبو إليه ونعمل في سبيله هو بناء مجتمع متماسك ومتوازن، مستمسك بعروته الوثقى، معتز بمكونات شخصيته الوطنية والحضارية، متطلع إلى الحداثة، محب للمعرفة، متفتح على الثقافات الإنسانية.
مجتمع منسجم حضاريا، متكافل اجتماعيا، محصن عقائديا، متطور علميا وفكريا، ينشد السلم والمصالحة، يحب الناس فيه بعضهم بعضا، يرى في التوافق بين الأصالة والحداثة وبين العلم والإيمان فضيلة ومبتغى يحققان الرقي ويجسدان التمدن والرفاه.
وذلك تماشيا مع طبيعة هذا المجتمع الذي هو في حقيقة أعماقه وضمن مسيرته التاريخية كان على الدوام وسطيا في عقيدته وسلوكه.
لا يستسيغ المسخ والانحراف، ولا يقبل البدع بذريعة التجديد والتحديث، كما لا يستكين للانغلاق والتحجر باسم التدين والتقاليد البالية، إذ لا إفراط لديه ولا تفريط، لا مكان للرهبانية ولا التطرف في عقيدته السمحة التي جبل عليها منذ 15 قرنا، ولا مكان لنكران العقيدة في ملته واعتقاده .
ولئن أبتلي بمحن كثيرة وكابد مصاعب جمة غالبته في مسيرته المتوازنة، فإنه قد صمد بثبات ونافح بأناة ليبقى على مر الدهور متصالحا مع ذاته ومع تاريخه .
وجهودنا اليوم في الوئام والمصالحة وفي الإصلاح والانفتاح هي إعادة تقويم لما حال وتصويب لما أعوج، وإعداد المجتمع بمقومات التوازن من أجل مواجهة التحديات المستقبلية.
وليس ضمن رؤيتنا ولا في مساعينا أو قراراتنا إجراء لخدمة فكر على فكر، أو فئة على فئ، أو إرضاء جهة دون أخرى. إنما وجهتنا في كافة ما نصبو إليه هو خدمة الجزائر وشعبها بكل فئاته، وضمن مشروع مجتمع خال من الآفات والتطرف.
إن الشعب الجزائري هو صاحب السيادة والكلمة الأخيرة، ولقد أكدها في كل استحقاق وأعادها في كل منبر وزكاها في كل سانحة بدعم إجراءات ملموسة وقوانين جلية سعيا منه إلى تزكية السلم والمصالحة الوطنية، وتعزيز روح الجماعة، وإحياء الضمير الجمعي من أجل التماسك الوطن،ي والعيش في كنف العزة الكرامة النابعين من خياره الإستراتيجي الهادف بالاعتماد على ميثاق السلم والمصالحة، ومطابقة قوانينه مع روح هذا الميثاق، تطبيقا يقر المساواة ويتجلى فيه القسطاس.
ذلكم أن المصالحة الوطنية نابعة من ثقافة وسلوك مجتمعنا الإسلامي. وتكريس هذا السلوك الحضاري يتطلب جهدا خاصا من صناع الفكر في مختلف الميادين، وفي مقدمتهم رجال القانون، لأنه عمل يستوجب الكفاءة والمعرفة أولا، والرصانة و روح المسؤولية ثانيا، لاسيما وأن العدالة بصفتها حامية المجتمع وحصنه الحصين في الملمات، هي التي آل إليها بداهة شرف السهر على تنفيذ القسط الأكبر من النصوص والإجراءات المجسدة لميثاق السلم والمصالحة الوطنية، بروح من المسؤولية وبالسرعة الضرورية. وبالفعل، فإن إجراءات التنفيذ قد أزفت ساعتها، وندعوكم اليوم للمساهمة في تجسيد هذا المطلب الجماهيري وجعله بداية لانطلاقة فعلية يأخذ فيها كافة أفراد الشعب دورهم الطبيعي في مسيرة الجزائر نحو الاستقرار والازدهار.
فباعتباركم نخبة من نخب هذا الوطن، فإنكم مطالبون تاريخيا وحضاريا بالمبادرة الفعالة في تنوير أفراد المجتمع، وتبيان أهمية الإجراءات الواجب إتباعها في نشر ثقافة المصالحة من خلال شرح مقاصد وأبعاد نصوص هذا الميثاق، والانعكاسات الإيجابية لتطبيقها على الحياة اليومية للمواطن، كلما وأتتكم الفرص، فبذلكم وبفضل تكاتف جميع شرائح المجتمع، لاسيما الطبقات المثقفة منها، ستخرج الجزائر بإذن الله من أزمتها، وسيتوفر الجو الملائم للتنمية الوطنية الشاملة المنشودة، وسيفتح السبيل أمام كل من يريد أن يعبر عن إرادته المخلصة في صنع تقدم ورقي هذا الوطن بالطرق القانونية السليمة بعيدا عن كل تحايل أو مراوغة.
أيتها السيدات، أيها السادة،
لاشك في أن المحاضرات التي ستلقى في هذه الندوة من قبل أساتذة في القانون ومحامين وخبراء في مهنة الدفاع، والمناقشات والمداخلات التي تتخللها، ستنير دربكم وتسلط الأضواء على بعض الزوايا المبهمة في الممارسة، وتعمل على ترتيب الأولويات لديكم حتى ترتقوا بهذه المهنة إلى مستوى النبل والمكانة الاجتماعية المرموقة التي هي أولى بها وأحق، فإذا ما استوفت كل شروط رقيها وازدهارها، كانت خير داعم لتحقيق مصداقية العدالة في بلادنا. وهل تدرون ما قيمة مصداقية العدالة في بلد؟ إنها ركن ركين في بناء دولة الحق والقانون، ومتى أرسينا هذا البناء الشامخ، فإن الخير يعم والرفاهية تزدهر، وسمعة البلد ترقى إلى سمائها وما يبقى بعد ذلك إلا إسهامات بلادنا في المجهودات الإنسانية الرامية إلى كبح جماح الشر أينما كان، وإرسال تباشير الخير وإشاعة دواعي المحبة بين بني البشر.
أشكركم جزيل الشكر وأتمنى لأشغال ندوتكم هذه النجاح كل النجاح، والتوفيق كل التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.